فصل: تفسير الآيات (25- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (25- 39):

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)}
{قَالَ رَبّ اشرح لِي صَدْرِى} وسعه ليحتمل الوحي والمشاق ورديء الأخلاق من فرعون وجنده {وَيَسّرْ لِى أَمْرِى} وسهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. واشرح لي صدري آكد من اشرح صدري لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل لأنه يقول اشرح لي ويسر لي علم أن ثمة مشروحاً وميسراً ثم رفع الإبهام بذكر الصدر والأمر {واحلل} افتح {عُقْدَةً مّن لّسَانِي} وكان في لسانه رتة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه، وذلك أن موسى أخذ لحية فرعون ولطمه لطمة شديدة في صغره فأراد قتله فقالت آسية: أيها الملك إنه صغير لا يعقل فجعلت في طشت ناراً وفي طشت يواقيت ووضعتهما لدى موسى فقصد اليواقيت فأمال الملك يده إلى النار فرفع جمرة فوضعها على لسانه فاحترق لسانه فصار لكنة منها. وروي أن يده احترقت واجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال: إلى أي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. و{مّن لّسَانِي} صفة لعقدة كأنه قيل: عقدة من عقد لساني، وهذا يشعر بأنه لم تزل العقدة بكمالها وأكثرهم على ذهاب جميعها {يَفْقَهُواْ قَوْلِي} عند تبليغ الرسالة.
{واجعل لّي وَزِيراً} ظهيراً اعتمد عليه من الوزر الثقل لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنته، أو من الوزر الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره، أو معيناً من الموازرة وهي المعاونة ف {وَزِيراً} مفعول أول ل {اجَعَلَ} والثاني {مّنْ أَهْلِي} أو {لِي} أَوْ {وَزِيراً} مفعولاه وقوله {هارون} عطف بيان ل {وَزِيراً} وقوله {أَخِي} بدل أو عطف بيان آخر و{وَزِيراً} و{هارون} مفعولاه وقدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة {اشدد بِهِ أَزْرِى} قو به ظهري وقيل الأزر القوة {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} اجعله شريكي في النبوة والرسالة. {اشدد} و{أشركه} على حكاية النفس شامي على الجواب، والباقون على الدعاء والسؤال {كَيْ نُسَبّحَكَ} نصلي لك وننزهك تسبيحاً {كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} في الصلوات وخارجها {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} عالماً بأحوالنا فأجابه الله تعالى حيث {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} أعطيت مسؤولك فالسؤل الطلبة فعل بمعنى مفعول كخبز بمعنى مخبوز. {سولك} بلا همز: أبو عمرو.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا} أنعمنا {عَلَيْكَ مَرَّةً} كرة {أخرى} قبل هذه ثم فسرها فقال: {إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى} إلهاماً أو مناماً حين ولدت وكان فرعون يقتل أمثالك. و{إِذْ} ظرف ل {مَنَنَّا} ثم فسر ما يوحى بقوله {أَنِ اقذفيه} ألقيه {فِى التابوت} و{أن} مفسرة لأن الوحي بمعنى القول: {فاقذفيه في اليم} النيل {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} الجانب وسمي ساحلاً لأن الماء يسحله أي يقشره، والصيغة أمر ليناسب ما تقدم ومعناه الإخبار أي يلقيه اليم بالساحل {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} يعني فرعون والضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يفضي إلى تناثر النظم والمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان هو التابوت لكن موسى في جوف التابوت.
رُوي أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وقيرته ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا بصبي أصبح الناس وجهاً فأحبه فرعون حباً شديداً فذلك قوله {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} يتعلق {مِنّي} ب {ألقيت} يعني إني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب فما رآه أحد إلا أحبه. قال قتادة: كان في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه {وَلِتُصْنَعَ} معطوف على محذوف تقديره وألقيت عليك محبة لتحب ولتصنع {على عَيْنِى} أي لتربى بمرأى مني وأصله من صنع الفرس أي أحسن القيام عليه يعني أنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به {وَلِتُصْنَعَ} بسكون اللام والجزم: يزيد على أنه أمر منه.

.تفسير الآيات (40- 50):

{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)}
{إِذْ تَمْشِى} بدل من {إِذْ أَوْحَيْنَا} لأن مشي أخته كان منة عليه {أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} رُوي أن أخته مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثدي امرأة فقالت: هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه فيربيه وأرادت بذلك المرضعة الأم. وتذكير الفعل للفظ {مِنْ}، فقالوا: نعم فجاء بالأم فقبل ثديها وذلك قوله {فرجعناك} فرددناك {إلى أُمّكَ} كما وعدناها بقولنا {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7] {كَى تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك {وَلاَ تَحْزَنْ} على فراقك {وَقَتَلْتَ نَفْساً} قبطياً كافراً {فنجيناك مِنَ الغم} من القود. قيل الغم: القتل بلغة قريش وقيل: اغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله تعالى ومن اقتصاص فرعون فغفر الله له باستغفاره {قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى} [القصص: 16] ونجاه من فرعون بأن ذهب به من مصر إلى مدين {وفتناك فُتُوناً} ابتليناك ابتلاء بإيقاعك في المحن وتخليصك منها، والفتون مصدر كالقعود أو جمع فتنة أي فتناك ضروباً من الفتن، والفتنة المحنة وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة. {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} هي بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر. قال وهب: لبث عند شعيب ثمانياً وعشرين سنة، عشر منها مهر لصفوراء، وأقام عنده ثمان عشرة سنة بعدها حتى ولد له أولاد. {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} أي موعد ومقدار للرسالة وهو أربعون سنة {واصطنعتك لِنَفْسِي} اخترتك واصطفيتك لوحي ورسالتي لتتصرف على إرادتي ومحبتي. قال الزجاج: اخترتك لأمري وجعلتك القائم بحجتي والمخاطب بيني وبين خلقي كأني أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم.
{اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى} بمعجزاتي {وَلاَ تَنِيَا} تفترا من الونى وهو الفتور والتقصير {فِى ذِكْرِى} أي اتخذا ذكري جناحاً تطيران به أو أريد بالذكر تبليغ الرسالة فالذكر يقع على سائر العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها {اذهبا إلى فِرْعَوْنَ} كرر لأن الأول مطلق والثاني مقيد {إِنَّهُ طغى} جاوز الحد بإدعائه الربوبية {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً} الطفا له في القول لما له من حق تربية موسى، أو كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث: أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. أو عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع عنه إلا بالموت، أو هو قوله {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى} [النازعات: 19] أي يخاف أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة. وإنما قال: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} مع علمه أنه لا يتذكر لأن الترجي لهما، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يطمع أن يثمر عمله.
وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة. وقيل: معناه لعله يتذكر متذكر أو يخشى خاش وقد كان ذلك من كثير من الناس. وقيل: {لَعَلَّ} من الله تعالى واجب وقد تذكر ولكن حين لم ينفعه التذكر. وقيل: تذكر فرعون وخشي وأراد اتباع موسى فمنعه هامان وكان لا يقطع أمراً دونه. وتليت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال: هذا رفقك بمن يقول أنا إله فكيف بمن قال أنت الإله؟ وهذا رفقك بمن قال أنا ربكم الأعلى فكيف بمن قال سبحان ربي الأعلى.
{قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} يعجل علينا بالعقوبة ومنه الفارط يقال فرط عليه أي عجل {أَوْ أَن يطغى} يجاوز الحد في الإساءة إلينا {قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا} أي حافظكما وناصركما {أَسْمِعْ} أقوالكما {وأرى} أفعالكما. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما {فَأْتِيَاهُ} أي فرعون {فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} إليك {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل} أي أطلقهم عن الاستعباد والاسترقاق {وَلاَ تُعَذّبْهُمْ} بتكليف المشاق {قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ} بحجة على صدق ما ادعيناه، وهذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي {إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} مجرى البيان والتفسير والتفصيل لأن دعوى الرسالة لا تثبث إلا ببينتها وهي المجيء بالآي فقال فرعون: وما هي؟ فأخرج يده لها شعاع كشعاع الشمس {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} أي سلم من العذاب من أسلم وليس بتحية. وقيل: وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين.
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب} في الدنيا والعقبى {على مَن كَذَّبَ} بالرسل {وتولى} أعرض عن الإيمان وهي أرجى آي القرآن لأنه جعل جنس السلام للمؤمن وجنس العذاب على المكذب وليس وراء الجنس شيء، فأتياه وأديا الرسالة وقالا له ما أمرا به.
{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} خاطبهما ثم نادى أحدهما لأن موسى هو الأصل في النبوة وهارون تابعه {قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَئ خَلْقَهُ} {خَلَقَهُ} أول مفعولي {أعطى} أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذا الأنف والرجل واليد كل واحد منها مطابق للمنفعة المنوطة بها، وقرأ نصير {خَلَقَهُ} صفة للمضاف أو للمضاف إليه أي أعطى كل شيء مخلوق عطاء {ثُمَّ هدى} عرف كيف يرتفق بما أعطى للمعيشة في الدنيا والسعادة في العقبى.

.تفسير الآيات (51- 62):

{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)}
{قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} فما حال الأمم الحالية والرمم البالية، سأله عن حال من تقدم من القرون وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد {قَالَ} موسى مجيباً {عِلْمُهَا عِندَ رَبّى} مبتدأ وخبر {فِى كتاب} أي اللوح خبر ثانٍ أي هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ {لاَّ يَضِلُّ رَبّى} أي لا يخطئ شيئاً يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له أي لا يخطئ في سعادة الناس وشقاوتهم {وَلاَ يَنسَى} ثوابهم وعقابهم. وقيل: لا ينسى ما علم فيذكره الكتاب ولكن ليعلم الملائكة أن معمول الخلق يوافق معلومه.
{الذى} مرفوع صفة ل {رَبّى} أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح {جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} كوفي وغيرهم {مهادا} وهما لغتان لما يبسط ويفرش {وَسَلَكَ} أي جعل {لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} طرقاً {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} أي مطراً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالماء. نقل الكلام من الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للافتنان. وقيل: تم كلام موسى ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} وقيل: هذا كلام موسى أي فأخرجنا نحن بالحراثة والغرس {أزواجا} أصنافاً {مّن نبات} هو مصدر سمي به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع {شتى} صفة للأزواج أو للنبات جمع شتيت كمريض ومرضى أي إنها مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل بعضها للناس وبعضها للبهائم، ومن نعمة الله تعالى أن أرزاقنا تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجاتنا مما لا نقدر على أكله قائلين {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} حال من الضمير في {فَأَخْرَجْنَا} والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها {إِنَّ في ذَلِكَ} في الذي ذكرت {لآيَاتٍ} لدلالات {لأُِوْلِي النهى} لذوي العقول واحدها نهية لأنها تنهى عن المحظور أو ينتهى إليها في الأمور {مِنْهَا} من الأرض {خلقناكم} أي أباكم آدم عليه السلام. وقيل: يعجن كل نطفة بشيء من تراب مدفنه فيخلق من التراب والنطفة معاً أو لأن النطفة من الأغذية وهي من الأرض {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} إذا متم فدفنتم {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} عند البعث {تَارَةً أخرى} مرة أخرى والمراد بإخراجهم أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر، عدد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم حيث جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاؤوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم وهي أصلهم الذي منه تفرعوا، وأمهم التي منها ولدوا وهي كفانهم إذا ماتوا.

.تفسير الآيات (63- 71):

{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}
{قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران} يعني موسى وهارون. قرأ أبو عمرو {إن هَذينِ لساحران} وهو ظاهر ولكنه مخالف للإمام، وابن كثير وحفص والخليل وهو أعرف بالنحو واللغة {إِنْ هاذان لساحران} بتخفيف {إن} مثل قولك (إن زيد لمنطلق) واللام هي الفارقة بين (إن) النافية والمخففة من الثقيلة. وقيل: هي بمعنى (ما) واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران دليله قراءة أبيّ {إن ذان إلا ساحران} وغيرهم {إِنْ هاذان لساحران} قيل هي لغة بلحارث بن كعب وخثعم ومراد وكنانة فالتثنية في لغتهم بالألف أبداً فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب كعصا وسعدى قال:
إن أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها

وقال الزجاج: إن بمعنى نعم، قال الشاعر:
ويقلن شيب قد علا ** ك وقد كبرت فقلت إنه

أي نعم والهاء للوقف. و{هذان} مبتدأ و{ساحران} خبر مبتدأ محذوف واللام داخلة على المبتدأ المحذوف تقديره: هذان لهما ساحران فيكون دخولهما في موضعها الموضوع لها وهو الابتداء، وقد يدخل اللام في الخبر كما يدخل في المبتدأ قال:
خالي لأنت ومن جرير خاله

قال: فعرضته على المبرد فرضيه وقد زيفه أبو عليّ. {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ} مصر {بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ} بدينكم وشريعتكم {المثلى} الفضلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل {فَأَجْمِعُواْ} فأحكموا أي اجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا. {فَأَجْمِعُواْ} أبو عمرو ويعضده {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} {كَيْدَكُمْ} هو ما يكاد به {ثُمَّ ائتوا صَفّاً} مصطفين حال أمروا بأن يأتوا صفاً لأنه أهيب في صدور الرائين {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} وقد فاز من غلب وهو اعتراض.
{قَالُواْ} أي السحرة {ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ} عصاك أولاً {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} ما معنا وموضع {أن} مع ما بعده فيهما نصب بفعل مضمر، أو رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف معناه اختر أحد الأمرين، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا. وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه وكأنه تعالى ألهمهم ذلك وقد وصلت إليهم بركته وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً حتى {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ} أنتم أولاً ليبرزوا ما معهم من مكايد السحر ويظهر الله سلطانه ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه فيصير آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين فألقوا {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} يقال في {إِذَا} هذه: إذا المفاجأة والتحقيق أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها، وخصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير والتقدير: ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي {يُخَيَّلُ} وبالتاء: ابن ذكوان {إِلَيْهِ} إلى موسى {مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} رفع بدل اشتمال من الضمير في {يُخَيَّلُ} أي يخيل الملقى.
رُوي أنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيلت ذلك.
{فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} أضمر في نفسه خوفاً ظنًّا منه أنها تقصده للجبلة البشرية أو خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} الغالب القاهر. وفي ذكر (إن) و(أنت) وحرف التعريف ولفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة مبالغة بينة.
{وَأَلْقِ مَا في يَمِينِكَ تَلْقَفْ} بسكون اللام والفاء وتخفيف القاف: حفص و{تَلْقَفْ}: ابن ذكوان، الباقون {تَلْقَفْ} {مَا صَنَعُواْ} زوراً وافتعلوا أي اطرح عصاك تبتلع عصيهم وحبالهم. ولم يقل عصاك تعظيماً لها أي لا تحتفل بما صنعوا فإن ما في يمينك أعظم منها، أو تحقيراً أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الذي في يمينك فإنه بقدرتنا يتلقفها على وحدته وكثرتها {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} كوفي غير عاصم سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في السحر كأنهم السحر، و{كَيْدَ} بالرفع على القراءتين و(ما) موصولة أو مصدرية. وإنما وحد {ساحر} ولم يجمع لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر} أي هذا الجنس {حَيْثُ أتى} أينما كان فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فلعظم ما رأوا من الآية وقعوا إلى السجود فذلك قوله {فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً} قال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين. رُوي أنهم رأوا الجنة ومنازلهم فيها في السجود فرفعوا رؤوسهم ثم {قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} وإنما قدم {هارون} هنا وأخر في الشعراء محافظة للفاصلة ولأن الواو لا توجب ترتيباً {قَالَ ءامَنتُمْ} بغير مد: حفص، وبهمزة ممدودة: بصري وشامي وحجازي، وبهمزتين: غيرهم {لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ} أي لموسى. يقال: آمن له وآمن به {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} لعظيمكم أو لمعلمكم، تقول أهل مكة للمعلم: أمرني كبيري {فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال، و{من} لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشئ من مخالفة العضو، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال يعني لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف، شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف فلهذا قال: {وَلأُصَلّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل} وخص النخل لطول جذوعها {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً} أنا على ترك إيمانكم بي أو رب موسى على ترك الإيمان به. وقيل: يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله وسلامه عليه بدليل قوله {آمنتم له} واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] {وأبقى} أدوم.